إشراقة
الهَمُّ
والسبيلُ إلى
علاجه
الهمُّ لغةً هو الحزن الذي يُصِيب الإِنسانَ ممّا يَهُمُّ به أو يُجيلُ فكرَه لفعله أو إيقاعه. وهو شيء خطير يجعل المرأ – حين يُسَيْطِرُ عليه – يَتَأَكَّلُ داخليًّا، ويَنْحُفُ ظاهريًّا، ويتحطّم كيانُه من جميع الوجوه؛ ولذلك استعاذ منه النبي – صلى الله عليه وسلم - وكان يُكُثِر من قوله: «اللهمّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبخل والجُبْنِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ وغلبة الرجال» (البخاري 7/158 برقم:2893).
وهناك
دعاء نبويٌّ
هامٌّ أخرجه
الإمام أحمد كان
يدعو به النبي
– صلى الله
عليه وسلم -
ربه أن يُزِيل
عنه الحزنَ
والهمَّ بفضل
القرآن
الكريم، نَصُّه
كما يلي:
«اللهم
إني عبدك، ابن
عبدك، ابن
أمتك، ناصيتي
بيدك، ماضٍ
فيّ حكمُك،
عدلٌ فيّ
قضاؤك، أسألك
بكل اسم هو
لك،
سَمَّيْتَ به
نفسَك، أو أنزلتَه
في كتابك، أو
عَلَّمْتَه
أحدًا من
خلقك، أو
استأثرتَ به
في علم الغيب
عندك، أن تجعل
القرآنَ
ربيعَ قلبي،
ونور صدري،
وجلاءَ حزني،
وذهابَ
هَمِّي» (مسند
أحمد 1/391 برقم:4318).
الأسلوب
الدعائي
البديع
الحكيم الذي
اختاره النبي
– صلى الله
عليه وسلم -
للتضرع إلى
ربّه –
تعالى –
أن يُزِيل عنه
الحزنَ
والهمَّ،
يدلّ دلالةً
واضحةً على أن
الهمَّ
والحزن أمر
خطير وخطب
عظيم ينبغي أن
يستعيذ منه
الإنسان
بربّه –
جلّ وعلا –
بأسمائه
الحُسْنَىٰ
وصفاته
العُلَىٰ
وكتابه
المجيد
القرآن
الكريم، حتى
لا يتعرض له
ابتداءً أو
يُعَافَىٰ
منه انتهاءً
إذا كان قد
تَعَرَّضَ
له؛ لأنه من
شأنه أن
يُذِيب كيانَ
الإنسان، بل
يستأصله
ويُفْنِيه
بأخذه الشديد
وضربه العنيف.
وقد
عَبَّرَ
الشاعر
العربي
العبقري أبو
الطيب أحمد بن
الحسين
المتنبئ عن
الهم
وأفاعيله تعبيرًا
دقيقًا
عميقًا
وافيًا
بليغًا يُصَوِّر
تصويرًا
صادقًا مدى
وجع بطشه ونكايته
فيمن يصيبه،
فقال:
وَالْهمُّ
يَخْتَرِمُ
الْجَسِيمَ
نَحَـافَــةً
ويُشِيْبُ
نَاصِيَةَ
الصَّبِيِّ
ويُهْرِمُ
يقول:
إن الحزن إذا
استولى على
المرإ أذهب
جسمَ العظيم
الجسد وهزله
حتى يأتي عليه
من الهزال،
ويُشيب
الصبيَّ قبل
الأوان، حتى
يصير كالهَرِم
أي الكبير الضعيف
من الضعف
والعجز. وفي
هذا المعني
يقول أبو
نُوَاس الحسن
بن هاني أحد
الشعراء
العباسيين:
وَمَا
إِنْ شِبْتُ
مِنْ كِبَـرٍ
وَلٰكِنْ
لَقِيتُ
مِنَ
الْحَوَادِثِ
مَا أَشَابَا
والهمُّ
يُطِيل
الليلَ على
الإنسان،
ويجعل قصاره
طوالاً،
وقديمًا قال
امرؤالقيس من
أشهر شعراء
الجاهلية بل
أوّلهم منزلة:
وَلَيْلٍ
كَمَوْجِ
الْبَحْرِ
أَرْخَىٰ
سُدُولَه
عَلَيَّ
بِـأَ نْـــوَا عِ
الْـهُمُــومِ لِيَبْتَلـِي
يقول
الشاعر: وربّ
ليل يحاكي
أمواج البحر
في توحّشه
ونكارة أمره
قد أرخى عليّ
ستور ظلامه مع
أنـــواع
الأحـــزان،
أو مع فنون
الهمّ،
ليختبرني أ
أصبر على ضروب
الشدائد وفنون
النوائب، أم
أجزع منها.
ثم
يقول:
فَقُلْتُ
لَــهُ لَـمَّـا
تَمَـطَّىٰ بِصُلْبِـهِ
وَأَرْدَفَ
أَعْجَــازًا
ونَـاءَ
بِكَلْكَلِ
أَلَا
أَيُّهَا
اللَّيْلُ
الطَّوِيلُ
أَلَا
انْجَـلِي
بِصُبْحٍ
وَمَا
الْإِصْبَاحُ
مِنْكَ
بِأمْثَلِ
فَيَالَكَ مِنْ
لَيْلٍ كَأَنَّ
نُجُــومَـــه
بِأَمْــرَاسِ
كَتَّانٍ إِلَىٰ
صُمِّ جَنْـدَلِ
يقول:
قُلْتُ لليل
لَـمَّا
مَدَّ صلبَه،
يعني لـمّا
أَفْرَطَ
طولُه،
وأَرْدَفَ
أعجازًا،
يعني ازدادت
مآخيره
امتدادًا
وتطاولاً، ونَاءَ
بكلكل يعني
أبعد صدرَه،
أي بعد العهدُ
بأوّله.
وتلخيص
المعنى: قلتُ
لليل، لمّا
أَفْرَطَ
طولُه، وبعدت
أوائله،
وازدادت
أواخره
تطاولاً.
وطولُ الليل ينبئ
عن مقاساة
الأحزان
والشدائد
والسهر المتولد
منها؛ لأن
المهموم الذي
ينزل به
الهمُّ يستطيل
ليلَه،
والمسرور
يستقصر ليله.
قلتُ
له:
اِنْكَشِفْ
وتَنَحَّ
بصبح، أي
ليَزُلْ ظلامُك
بضياء من
الصبح. ثم
يقول: وليس
الصبحُ بأفضل
منك عندي؛
لأني أقاسي
الهمومَ
نهارًا كما أعانيها
ليلاً، أو
لأنّ نهاري
أَظْلَمَ في عيني
لازدحام
الهموم عليّ
حتى حكى
الليلَ.
في
البيت الثالث
يقول مخاطبًا
الليل الذي استطاله
من أجل
معاناته
الهموم: فيا
عَجَبًا لك من
ليل كأن نجومه
شُدَّتْ أي
رُبِطَتْ
بحبال من الكتّان
إلى صخور
صلاب. وذلك
أنه استطال
الليلَ فيقول:
إن نجومه
لاتزول من
أماكنها ولا
تغرب، فكأنها
مربوطة بحبال
من
الكَتَّانِ
إلى صخور
صلبة. وإنما
استطال
الشاعر
الليلَ لمعاناته
الهمومَ
ومقاساته
الأحزان فيه.
وقولُه:
بِأَمْراسٍ
كَتَّان،
يعني
رُبِطَتْ، فحُذِفَ
الفعل لدلالة
الكلام على
حذفه.
وأكّد
هذا المعنى
شاعر عربي
آخر، أبان أن
الليل يطول
بالهموم،
ويقصر
بالسرور،
فقال:
إِنَّ
اللَّيَالِيْ
لِـلْأَنَــامِ
مَنَـاهِــلُ
تُطْوَىٰ
وتُنْشَرُ
دُونَها
الْأَعمَـارُ
فَقِصَارُهُنَّ
مَعَ
الهُمُـومِ
طَوِيلَةٌ
وَطِوَالُهُنَّ
مَعَ
السُّرُورِ
قِصَــارُ
ومن
المُؤَكَّد
الذي لا يقبل
نقاشًا أن
الهموم تكبر
وتصغر
بالنسبة إلى
الرجال،
فالبعيد الهمّ
يرى الأمور
الكبيرة
صغيرةً
والصغير النفس
القصير الهمّ
يرى الأمور
الهينة
الصغيرة
كبيرةً جليلة.
وهذا ما أبانه
المتنبئ
الشاعر
الحكيم في
بيتيه الآتيين،
فقال:
عَلَىٰ
قَدْرِ
أَهْلِ
الْعَزْمِ
تَأْتِي
العَـزَائِمُ
وَتَأْتِي
عَلَىٰ
قَدْرِ
الْكِـرَامِ
الْـمَكَارِمُ
وتَعْظُمُ
فِي عَيْنِ
الصَّغِيرِ
صِغَارُهَا
وَتَصْغُرُ
فِي عَيْنِ
الْعَظِيْمِ
العَـظَائِمُ
يقول:
إن العزائم
إنماتكون على
قدر أصحاب العزم،
فمن كان كبير
الهمة قوي
العزم كان
الأمر الذي
يعزم عليه
عظيمًا. وكذلك
المكارم إنما
تكون على قدر
أهلها، فمن
كان أكرم، كان
ما يأتيه من
المكرمات
أعظم،
والمعنى أن
الرجال قوالب الأحوال؛
فإذا صغروا
صغرت، وإذا
كبروا كبرت. وهذا
كقول عبد الله
بن طاهر:
إِنَّ
الْفُتُوْحَ
عَلَىٰ
قَدْرِ
الـمُلُوكِ
وَهَمَّا
تِ
الوُلاَةِ
وَإِقْــــدَامِ
الْـمَقَـادِيْـمِ
وقال
شاعر عربي
آخر:
إِذَا
صَغُرَتْ
نَفْسُ
الْفَتَىٰ
كَانَ
هَمُّهُ
صَغِـيرًا
فَلَمْ يَتْعَبْ
وَلَـم
يَتَجَشّمِ
ومَنْ
كَانَ
جَبَّارَ
الْـمَطَامِـعِ
لَمْ يَزَلْ
يُلاَقِي
مِـنَ
الدُّنْيَا
ضَرَاوَةَ
قَشْعَمِ
وتَجَشَّمَ
الأمر:
تَكَلَّفَه
عَلَىٰ
مشقّة،
وضَرَاوَةُ
قشعم: شدة بطش
الأسود، ومبالغتها
في الوالع
بالصيد.
وجَبَّار
المطامع: كبير
الأغراض، بعيد
الهموم، صاحب
الأهداف
السامية.
والهموم
أنواع لا
تُجْصَىٰ،
وهي تلازم
الإنسان منذ
وجوده،
ولاسيّما منذ
أن يعقل ويعي
ويرشد،
وأعْقَلُ
الرجال أكثرُهم
همًّا. وقد
قال المتنبئ:
إن أخلى الناس
من العقل
والذكاء هو
الذي يكون
أخلاهم من
الهمّ، ومعنى
قوله أن
أَعْقَلَهُمْ
هو
أَشَدّهُمْ
ابتلاء
بالهمّ، وذلك
في بيته
البديع
الرائع:
أَفَاضِلُ
النَّاسِ
أَغْرَاضٌ
لِذَا الزَّمَنِ
يَخْلُو
مِـنَ
الهَمِّ
أَخْلاَهُمْ
مِنَ الفِطَنِ
الأغراض:
الأهداف.
يقول: إن
الأفاضل من
الناس كالأغراض
للزمان
يرميهم
بنوائبه
ويقصدهم بمحنه؛
فلا يزالون
محزونين لبعد
همّهم ولطف
إحساسهم
واهتمامهم
بما دَقَّ
وجَلَّ من
عِبَرِ الدهر
وصروفه، فكأنهم
هم المقصودون
بها. وإنما
يخلو من الحزن
من كان خاليًا
من الفطنة.
وحاصلُ
المعنى –
كما يقول عبد
الرحمن
البرقوقي
شارح ديوان المتنبئ
– أن
الزمان إنما
يقصد بشرّه
الأفاضل من
الناس. قال
حكيم: على قدر
الهِمَمِ
تكون الهُمُومُ.
وذلك أن
العاقل
يُفَكِّر في
عواقب الأمور
فلا يزال
مهمومًا،
وأما الجاهل
الغبي الأخرق
فلا يفكر في
شيء من هذا.
وقال
في بيت آخر:
لَحَا
اللهُ ذي
الدُّنْيَا
مُنَاخًا
لِرَاكِبٍ
فَكُلُّ
بَعِيــدِ
الْهَمِّ
فِيهَـا مُعَـذَّبُ
لَحَاه
اللهُ: أي
لَامَهُ
ولَعَنَهُ.
يقول: لعن
الله هذه
الدنيا التي
هي منزل عاجل
للراكب المسافر؛
فإن من كان
بعيد المرتقى
عالي الهمة،
كان أشدّ
نصبًا فيها.
وقد
قال المتنبئ:
إن الحياة لا
تصفو من
الهموم
وأكدار
الحياة إلّا
للجاهل
الغافل عن
عواقب الأمور.
وذلك في
البيتين
الجميلين
القادمين:
تَصْفُو
الْحَيَاةُ
لِجَاهِلٍ
أَوْ غَافِـلٍ
عَمَّـا
مَضَىٰ
فِيهَـا
وَمَـا
يُتَـوَقَّـعُ
وَلِـمَنْ
يُغَالِطُ
فِي
الْحَقَائِقِ
نَفْسَهُ
وَيَسُومُهَا
طَلَبَ
المُحَالِ
فَتَطْمَعُ
يقول:
إنّما تصفو
الحياةُ
لجاهل لا
يُدْرِكُ
أحوالَها
ومَصَايِرَها،
أو غافل عمّا
مضى فيها من
العبر
والدروس وما
يُنْتَظَر في
العواقب من
انقضائها أو
أحداثها التي
لا يُطِيق لها
احتمالًا. أمّا
العاقل
الفَطِن الذي
ينظر إلى
الدنيا بعين
المعرفة،
ويتأمّلها
تأمّل
الدراية، ويستحضر
صوارفَها
وتصاريفَها،
فإنها لا تصفو
له.
ويقول:
إن الحيــاة
تصفو كذلك من
الهموم لمن يغالط
أي يخادع
نفسَــه فيما
يتعلق بحقائق
الحيــاة،
ويُمَنِّيهَا
السلامــة
والبقاءَ،
ويُقْنِعُها
أن الدنيا
ليست دار غرور
وأخطار
وأهوال، وأن
الإنسان ليس
فيها على خطر
كبير، وأن
الحياة ليست
فانية عمّا
قريب، فمن صنع
هذا الصنيعَ و
وقف هذا
الموقفَ صفا
له العيش من
الهموم حين
ألقى عن نفسه
الفكر في
العواقب،
وسام أي
كَلَّفَ
نفسَه طلبَ
المحال من
البقاء في
السلامة مع
نيل المراد،
فطمعت في ذلك.
وبقي
أن نقول: إن
علاج الهموم
يكمن أولًا
وقبل كل شيء
في التوكل على
الله في كل من
السرَّاء
والضرَّاء
والمسرَّات
والأحزان؛
لأنه هو الذي
يعطي ويمنع،
وبيده مفاتيح
الأمور كلها،
ومن توكل عليه
كفاه همومه وأحزانه
وجميعَ ما
يُقْلِقه في
مسيرة الحياة.
قال الله عز
وجلّ: «وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ
فَهُوَ
حَسْبُهُ»
(الطلاق/3)
ويكمن
ثانيًا في
الصبر
والتجلّد لدى
كل ملمة،
والصبرُ دواء
شافٍ وعلاج
كافٍ لكل ما
ينوب
الإنسانَ من
الأحزان
والآلام، ومن
أُعْطِيَ
الصبرَ أُعْطِيَ
رصيدًا لا
ينفد، ولا
يفنى على
الإنفاق. قال
الشاعر:
اِصْـبِرْ
لِكُلِّ
مُصِيبَـةٍ
وتَجَلَّدِ
وَاعْلَمْ
بِأَنَّ
الْـمَرْأَ
غَيْرُ
مُخَلَّدِ
تَجَلَّدْ:
تَقَوَّ
واصْبِرْ على
المكاره.
ويكمن
ثالثًا في
القناعة بما
وهبه الله له
وبما منعه
إيّاه،
مؤمنًا
إيمانًا
كاملًا بأن ما
كتب الله له
أو عليه
وقدّره في حقه
سيحصل لا مَحَالَةَ
وَلاَ
يُنْقِذُه من
أقدار الله أيُّ
قوة على وجه
الأرض؛ لأن الأقدار
الإلهية لا
مفر منها
للإنسان، ولا
ينفع التدبير
مع التقدير
إلّا إذا شاء
الله تعالى.
ولا يجري في
العالم شيء لم
يرده الله
تعالى، ولا
ينقص من رزق
أحدٍ أحدٌ إذا
قدّره الله له،
ولا ينقص من
عمر أحدٍ
أحدٌ، ولا
يزيد فيه لحظةً
لم يكتبها
الله له، ولن
يحول أحد دون
نعمة يريد
الله أن
يُنْعِمَها
على أحد، ولن
يقدر أحدٌ على
دفع مصيبة
يريد الله أن
يُنْزِلَها
بأحد، ولن
يُشْقِي أحدٌ
أحدًا يريد الله
أن
يُسْعِدَه،
ولن يُسْعِدَ
أحدٌ أحدًا يريد
الله أن
يُشْقِيَه.
فالأمر
كما قال
الإمام
أبوجعفر
الطحاوي في «العقيدة
الطحاوية»: «وكلُّ
شيء يجري
بتقديره –
الله تعالى –
ومشيئته،
ومشيئتُه
تَنْفُدُ، لا
مشيئةَ للعباد
إلّا ما شاء
لهم؛ فما شاء
لهم كان،
ومالم يشأ لم
يكن».
(تحريرًا
في الساعة 9 من
الليلة
المتخللة بين الاثنين
والثلاثاء:
24-25/صفر 1436هـ =
7-8/ديسمبر 2015م)
أبو
أسامة نور
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم ديوبند
، ربيع الثاني
1437 هـ = يناير –
فبراير 2016م ، العدد
: 4 ، السنة : 40